تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 193 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 193

193 : تفسير الصفحة رقم 193 من القرآن الكريم

** إِنّمَا النّسِيَءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلّونَهُ عَاماً وَيُحَرّمُونَهُ عَاماً لّيُوَاطِئُواْ عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّواْ مَا حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوَءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة, وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة, وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله , فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم, فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر فيحلون الشهر الحرام ويحرمون الشهر الحلال ليواطئوا عدة ما حرم الله الأشهر الأربعة كما قال شاعرهم وهو عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان:
لقد علمت معدّ بأن قوميكرام الناس إن لهم كراما
ألسنا الناسئين على معدشهور الحل نجعلها حراما
فأي الناس لم ندرك بوتروأي الناس لم نعلك لجاما
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} قال النسيء أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام وكان يكنى أبا ثمامة فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب ألا وإن صفر العام الأول العام حلال فيحله للناس فيحرم صفراً عاماً ويحرم المحرم عاماً فذلك قول الله {إنما النسيء زيادة في الكفر} يقول: يتركون المحرم عاماً وعاماً يحرمونه, وروى العوفي عن ابن عباس نحوه, وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول: يا أيها الناس: إني لا أعاب ولا أجاب ولا مرد لما أقول, إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول إنا قد حرمنا صفر وأخرناالمحرم فهو قوله {ليواطئوا عدة ما حرم الله} قال يعني الأربعة فيحلوا ما حرم الله لتأخير هذا الشهر الحرام, وروي عن أبي وائل والضحاك وقتادة نحو هذا, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله {إنما النسيء زيادة في الكفر} الاَية قال هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده, فلما كان هو قال اخرجوا بنا قالوا له هذا المحرم قال ننسئه العام هما العام صفران, فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما محرمين, قال ففعل ذلك فلما كان عام قابل قال لا تغزوا في صفر حرموه مع المحرم هما محرمان, فهذه صفة غريبة في النسيء وفيها نظر لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر فأين هذا من قوله تعالى: {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله} وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضاً فقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} الاَية, قال فرض الله عز وجل الحج في ذي الحجة, قال وكان المشركون يسمون ذا الحجة المحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوالاً وذا القعدة وذا الحجة يحجون فيه مرة ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفراً, ثم يسمون رجب جمادى الاَخرة, ثم يسمون شعبان رمضان, ثم يسمون شوالاً رمضان, ثم يسمون ذا القعدة شوالاً, ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة, ثم يسمون المحرم ذا الحجة فيحجون فيه واسمه عندهم ذا الحجة. ثم عادوا بمثل هذه الصفة فكانوا يحجون في كل عام شهرين حتى إذا وافق حجة أبي بكر الاَخر من العامين في ذي القعدة, ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج فوافق ذا الحجة فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» وهذا الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضاً وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة وأنى هذا ؟.
وقد قال الله تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله} الاَية وإنما نودي به في حجة أبي بكر فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى: {يوم الحج الأكبر} ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره من دوران السنة عليهم وحجهم في كل شهر عامين فإن النسيء حاصل بدون هذا فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاماً يحرمون عوضه صفراً وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في السنة الثانية يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه وبعده صفر وربيع وربيع إلى آخرها {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليوطئوا عدّة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله} أي في تحريم أربعة أشهر من السنة إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم وتارة ينسئونه إلى صفر أي يؤخرونه وقد قدمنا الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار» الحديث أي إن الأمر في عدة الشهور وتحريم ما هو محرم منها على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي لا كما تعتمده جهلة العرب من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض والله أعلم وقال ابن أبي حاتم: حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: «إنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً» فكانوا يحرمون المحرم عاماً ويستحلون صفر ويستحلون المحرم هو النسيء.
وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب السيرة كلاماً جيداً مفيداً حسناً فقال: كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم الله وحرم منها ما أحل الله عز وجل القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان: ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد ثم ابنه أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وكان آخرهم وعليه قام الإسلام فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فقام فيهم خطيباً فحرم رجباً وذا القعدة وذا الحجة ويحل المحرم عاماً ويجعل مكانه صفر ويحرمه ليواطىء عدة ما حرم الله فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله . والله أعلم.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الاَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الاَخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ * إِلاّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارّة القيظ فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} أي إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله {اثاقلتم إلى الأرض} أي تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار {أرضيتم بالحياة الدنيا من الاَخرة ؟} أي ما لكم فعلتم هكذا أرضىً منكم بالدنيا بدلاً من الاَخرة ؟ ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا, ورغب في الاَخرة فقال {فما متاع الحياة الدنيا في الاَخرة إلا قليل} كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الاَخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع ؟» وأشار بالسبابة انفرد بإخراجه مسلم. وروى ابن أبي حاتم حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصي بحمص حدثنا الربيع بن روح حدثنا محمد بن خالد الوهبي حدثنا زياد يعني الجصاص عن أبي عثمان قال: قلت: يا أبا هريرة سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة» قال أبو هريرة: بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة» ثم تلا هذه الاَية {فما متاع الحياة الدنيا في الاَخرة إلا قليل} فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل. وقال الثوري عن الأعمش في الاَية {فما متاع الحياة الدنيا في الاَخرة إلا قليل} قال: كزاد الراكب.
وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة. قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال: أما لي من كبير ما أخلف من الدنيا إلا هذا ؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أف لك من دار إن كان كثيرك لقليل, وإن كان قليلك لقصير, وإن كنا منك لفي غرور. ثم توعد تعالى من ترك الجهاد فقال: {إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليم} قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً من العرب فتثاقلوا عنه فأمسك الله عنهم القطر فكان عذابهم {ويستبدل قوماً غيركم} أي لنصرة نبيه وإقامة دينه كما قال تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم * ثم لا يكونوا أمثالكم} {ولا تضروه شيئ} أي ولا تضروا الله شيئاً بتوليكم عن الجهاد, ونكولكم وتثاقلكم عنه {والله على كل شيء قدير} أي قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم, وقد قيل إن هذه الاَية وقوله: {انفروا خفافاً وثقال} وقوله: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} إنهن منسوخات بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} روي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن, وزيد بن أسلم ورده ابن جرير وقال: إنما هذا فيمن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد فتعين عليهم ذلك فلو تركوه لعوقبوا عليه وهذا له اتجاه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

** إِلاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ السّفْلَىَ وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
يقول تعالى: {إلا تنصروه} أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين} أي عام الهجرة لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم هارباً بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أذى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» كما قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال: فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» أخرجاه في الصحيحين, ولهذا قال تعالى: {فأنزل الله سكينته عليه} أي تأييده ونصره عليه أي على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين وقيل على أبي بكر, وروي عن ابن عباس وغيره قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ولهذا قال: {وأيده بجنود لم تروه} أي الملائكة {وجعل كلمة الذين كفرواالسفلى وكلمة الله هي العلي} قال ابن عباس يعني بكلمة الذين كفروا الشرك وكلمة الله هي لا إله إلا الله. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وقوله: {والله عزيز} أي في انتقامه وانتصاره, منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه, واحتمى بالتمسك بخطابه {حكيم} في أقواله وأفعاله.